عن الأحزاب ... لجنة وأمناء عامين
كما فهما أمس من مداولات لجنة الأحزاب المنبثقة عن «لجنة الحوار الوطني»، فإن قادة بعض الأحزاب السياسية، أظهروا ضيقاً واضحاً بالمسعى الرامي لتخفيف القيود على تأسيس الأحزاب وترخيصها...وهذا أمر غير مفهوم، خصوصاً حين يصدر عن قادة حزبيين، المفترض أنهم الأشد حماساً للإباحة لا للحظر...لكن ما هو غير مفهوم، يصبح مفهوماً تماماً حين نتعرف عن كثب على الأسباب والدوافع التي تحرك بعض قادة الأحزاب وممثليها لاتخاذ مواقف متشددة من قضايا التسجيل والترخيص و»الحد الأدنى لعدد الأعضاء المؤسسين».
فهناك أولاً، دوافع أنانية صغيرة...فمن أسس حزباً لا يريد أن يرى منافسين كثر له على الساحة السياسية/ الحزبية، خصوصاً حين لا تكون للحزب المذكور، هوية سياسية وإيديولوجية واضحة المعالم...لا أحد يريد أن يشاركه آخرون موسم الحصاد، لأن تضارب المناجل من شأنه تقليص حجم المحصول.
وهناك ثانياً، وهذا هو السبب الأهم، خشية بعض هذه الأحزاب من «انقطاع» التمويل الحكومي، غير المشروط واقعياً، ذلك أن تخفيف شروط التسجيل وخفض الحد الأدنى للأعضاء المؤسسين من 500 إلى 50 أو 100 عضو مؤسس على سبيل المثال، سوف يدفع إلى إلغاء التمويل التلقائي وغير المشروط للأحزاب، والبالغة قيمته حالياً الخمسين ألف دينار، تدفع على قسطين متساويين.
الداعون لتخفيف قيود التسجيل والترخيص، وكاتب هذه السطور واحدٌ من بينهم، يريدون للأحزاب أن تحصل على دعم مالي كافٍ من خزينة الدولة، ولكن بناء على معيار حاسم، يتمثل في نسبة الأصوات و/أو المقاعد التي يحصل عليها الحزب في الانتخابات البرلمانية والبلدية، فالحزب الذي يحصل على 10 بالمائة من الأصوات المخصصة للقوائم النسبية، يحصل على 10 بالمائة من المال المخصص للأحزاب على سبيل المثال، وهكذا.
لن نقبل بعد الآن، الصرف التلقائي للمال العام على الأحزاب السياسية، بصرف النظر عن حجمها ودرجة تمثيلها ونفوذها...التمويل مشروط بنتائج الانتخابات العمومية، وتجربة الأحزاب، خصوصا الصغيرة، مع المال تجربة ليست جيدة، فقد ولّد هذا المال، صراعا على القيادة والنفوذ والشرعية، وأدخل وزارة الداخلية حكما في نزاعات حزبية داخلية، وتسبب في تفشي الانشقاقات وشبهات الفساد و»نهش القطط».
وعندما يصبح تمويل الحزب مرتبطا بحجمه ونفوذه كما يتبديان في الانتخابات العامة، ستجد الأحزاب نفسها مضطرة للائتلاف والتحالف والاندماج، أولا لتجاوز نسبة الحسم والوصول إلى قبة البرلمان، وثانياً للحصول على المال المُدعّم لميزانية الأحزاب وصناديقها....وهذا هو المعنى الكامن في قولنا المتكرر، أن قانون الانتخاب وليس قانون الأحزاب، هو من سيجعل قيام كتل وأحزاب كبيرة في بلادنا، أمراً ممكناً.
بصريح العبارة، ستفقد كثرة من الأحزاب السياسية القائمة، ترخيصها واستتباعاً، حقها في الحصول على 50 ألف دينار سنوياً، لو أنها أخضعت لمراجعة وكشف حقيقيين على عضويتها الفاعلة والمُؤسسة...كثرة من هذه الأحزاب لا تتوفر لديها شروط الحد الأدنى المطلوبة بموجب القانون الحالي، بعضها قدم عضوية شكلية من «العمّات والأعمام»، «الجدات والخالات والحموات»، المهم أن يجتاز حاجز الخمسمائة مؤسسة من خمس محافظات...ولطالما سمعنا عن عمليات شراء عضويات في هذه الأحزاب، تشبه عمليات شراء الأصوات في الانتخابات العامة...وربما لهذا السبب بالذات، ارتفعت عضوية النساء في الأحزاب من 9 بالمائة قبل إقرار قانون 2007 إلى ما يزيد عن 27 بالمائة الآن، أي أكثر من ثلاثمائة بالمائة بين عشية وضحاها.
ارتباط الدعم المالي للأحزاب بنتائج الانتخابات وليس بشروط «الخمسمائة مؤسس»، يحفظ للأحزاب استقلاليتها وكرامتها، ويحول دون تبعيتها للحكومات، التي تستيطع أن تلوّح سراً وعلانية، بورقة «التدقيق» على الموازنات والعضويات، في كل وقت رأت فيه أن هذا الحزب أو ذاك، قد خرق بعضاًَ من خطوطها الحمراء...ولأننا نريد عملاً حزبياً فاعلاً ومؤثراً، فإننا نأمل من لجنة الأحزاب أن لا تصغي لهذه المطالب المصلحية والأنانية، وأن تنحاز لفكرة تفعيل العمل الحزبي وضمان استقلاليته.
نأمل أن توفق لجنة الأحزاب في إعداد صياغة جديدة لقانون جديد، وبروحية جديدة، متخففة من النزعة الاتهامية للأحزاب، ومن النظرة الأمنية لها، قانون ينهض على فرضية الإباحة لا الحظر...قانون يؤسس لمنافسة حزبية حقيقية، ينظم الحق الدستوري للمواطن في تشكيل الأحزاب والجمعيات، لا أن يفرض قيوداً على هذا الحق، تجعل ممارسته أمراً صعباً ومكلفاً، حتى لا نقول محفوفاً بالمخاطر.
والأهم من كل هذا وذاك، نأمل أن يُقرا قانون الأحزاب وقانون الانتخاب، كرزمة واحدة، وهذه وظيفة اللجنة الأكبر ككل، بحيث يجري التوفيق بينهما، وبصورة يكمل أحدهما الآخر ويبني عليه.(الدستور)