ما قبل الدولة وما بعدها

حسب تصنفيات المؤرخين الجدد وعلماء الانثربولوجيا السياسية تنقسم بعض الكيانات الى ما قبل الدولة وما بعدها.. واذا كان المقصود بما قبل الدولة على الاقل بالمعنى الذي أراده بيير كلاستر هو التجمعات البشرية التي لم تستكمل أسس الدولة بالمعنى الحديث أو ما يسمى أقانيمها الثلاثة.. وهي الارض والناس والنظام، فان ما كتب حتى الآن عن ما بعد الدولة بقي مجرد حلم ماركسي، فالماركسية عندما راهنت على حتمية التاريخ وسيادة الطبقة العاملة أو البروليتاريا كانت تحلم بمرحلة ما بعد الدولة، لكن التاريخ لم يستجب لهذا الحلم، لأن عواصفه هبت بما لا تشتهي قوارب الورق أو حتى الأساطيل.
واذا كان هناك شرط لا بد من اقترانه بالدولة كي تكون مستقلة بالفعل وذات حدود اقليمية معترف بها فهو السيادة بكل ما ترمز إليه من هيبة وحضور وحدود غير رخوة، لكن هذه الحقبة التي أعقبت نهاية التاريخ كما أنذر بها فوكوياما أصبح العالم بحاجة الى معاجم سياسية جديدة، يعاد فيها تحديد الدلالات لكثير من المصطلحات السياسية التي كانت متداولة في أدبيات التاريخ الكلاسيكي، فثمة الآن أكثر من مثال في العالم يقدم مفهوم السيادة ناقصاً، أو جريحاً، لأن ما يسمى العابر للحدود والقارات والنظم هو في حقيقة الامر باطل يتستر بالحق. وأحيانا يصبح التدخل في الشؤون المحلية لبعض الدول تحت مختلف الذرائع الانسانية مجرد طريقة أخرى للاحتلال كما حدث في العراق، بالطبع لم يستجب العالم لبيان النعي الختامي للتاريخ كما قدمه ذلك الياباني الذي وضع بيوض كتبه وأطروحاته في الحاضنة الامريكية الدافئة وتتالت الردود عليه من مختلف المستويات سواء كانت اكاديمية جادة أو صحفية موسمية، وهناك في اوروبا من اتهموا فوكوياما بأنه لوى عنق هيجل وليس التاريخ فقط كي يلبي أشواقه ويتناغم مع المناخ الذي جعل الأمركة مرادفاً للعولمة، لكن بعد اجراء جراحة تجميلية تخفف من هذا الاستفزاز الذي يثير في الذاكرة الدولية كلها ما قاله روزفلت ذات يوم وهو أن قدر امريكا هو أمركة هذا الكوكب.
ان هناك من الكيانات ما لا يصمد طويلاً أمام التعريف الدقيق للدولة، لكن هذا التعريف لم يعد مقدساً أو ايقونة يحظر على الباحثين ملامستها باليد المجردة، فالعالم تغير، وكثير من المفاهيم أصبح الآن عرضة لاعادة الانتاج لكن على طريقة قاطع الطريق اليوناني بروكوست الذي كان يمط أطراف ضحاياه ان كان أقصر من التابوت الذي يمددهم عليه، أو يبترها اذا فاضت عن مساحته، وما يجب التذكير به في هذا السياق هو أن ما طرأ من انقلاب على المفاهيم ومنظومات القيم التقليدية التي رسخها التاريخ من خلال عدة ألفيات لم يصل الى الناس في أدق التفاصيل المتعلقة بحواراتهم وهواجسهم حول المتغيرات شبه الجذرية، لأن الميديا التي تم تسليحها بما يوازي السلاح النووي من حيث القدرة على صياغة الرأي العام تقدم هذه المتغيرات عبر جرعات متعاقبة، ومتصاعدة في الوقت ذاته، كي لا تكون الصدمة هائلة، ولو اخذنا عينة واحدة من هذه الميديا ذات النفوذ النووي فهي اتاحة الفرصة للناس كي يقولوا ما يريدون مقابل اتاحة الفرصة لصانعي القرارات أن يفعلوا ما يريدون، وقد ادى هذا الى فائض في حرية التعبير الى حد ما وأصبح هذا الفائض مرشحاً لأن يصبح شكلاً من اشكال التضخم الاعلامي، الذي تتدنى فيه القوة الفاعلة وليس الشرائية للكلمة المكتوبة أو المسموعة، وان المرء يعجب من الحذر المبالغ فيه الذي يحاصر الاعلام العربي بحيث يتردد كثيراً قبل الاقتراب من هذه القارة المسكوت عنها تماماً!! ( الدستور)