أيهما المنفى وأيهما الملكوت؟!

قد يشعر للحظات من لا يتعاملون مع الانترنت والفيس بوك بأنهم منفيون عن هذا العالم، وبالمقابل قد يشعر من يعيش في عالم افتراضي بأنهم منفيون عن الواقع الحي، ولم يحدث من قبل ان ادى انجاز تكنولوجي في مجال التواصل الى نتائج كالتي نشهدها الآن، ومؤخرا أدرج الاطباء النفسيون مرضا جديدا من امراض الكآبة سموه كآبة العالم الافتراضي, وقد يدرجون بعد قليل مرضا آخر من سلالة الكآبة في خانة اخرى تضم هؤلاء الذين يعيشون خارج الانترنت، ويصرون على ملامسة العشب بأصابعهم وعصر الليمونة بأيديهم والكتابة بأقلامهم ولقراء لا يعرفونهم! فأيهما المنفى وأيهما الملكوت؟؟
انها ثنائية خالدة ومتحركة وتأخذ في كل عصر شكلاً أو تجلياً مغايراً يتناغم مع هذا العصر.. فذات يوم كان مفهوم المنفى حكراً على الجغرافيا بحيث يسمى من يعيش خارج مسقط رأسه منفياً، لكن الدنيا تغيرت وأصبح هناك عدد من المنافي خارج مدار الجغرافيا ومساقط الرؤوس، فمن يغترب بوعيه عن الوسط الذي يعيش فيه يشعر بالاغتراب والنفي، وهناك من لديهم وعي بالمنفى التاريخي لأنهم يشعرون بأنهم تورطوا بالولادة قبل أو بعد الموعد الذي حلموا به.
وأضاف الشعراء والفلاسفة بعداً آخر للمنفى ربما كان الشاعر مالارميه أفضل من جسده بقصيدة عن انسان مريض، يعالج في مصح على أحد الجبال، ويصغي في حجرته الصامتة الى أصداء صراخ اطفال يلعبون أو مارة.. هذا المريض هو الانسان في كل زمان ومكان والأصوات التي تصل اليه في عزلته هي أصوات الحياة الابدية.. وبهذا المعنى نصبح كلنا منفيين، لأن الملكوت المضاد للنفي هو زمن آخر غير هذا الزمن وتقاويمه التي تقضم أيامنا!
وحين يقال الآن ان الفيس بوك هو الذي أحدث كل هذا الحراك فإن الخطأ مزدوج لانه مجرد أداة.. ففي الثورات التي عصفت بالعالم بدءا من الثورة الفرنسية والامريكية مرورا بثورات العرب سواء في ثورة العشرين العراقية او عام 1919 المصرية او يوليو وما اعقبها لم يكن هناك سوى المنشور المخطوط باليد او الالة الطابعة في طورها البدائي.
وثورة شباب العالم في شهر مايو عام 1968 والتي غيرت مناخات ومفاهيم كان لها ادواتها، فالتواصل من الحمام الزاجل الى الفيس بوك هو ادوات وليس مولدا لافكار ومفاهيم، وما ينتجه العقل البشري لا يحل مكانه بل هو في نهاية المطاف اداته واحيانا مطيته لبلوغ هدف ما!
لهذا يخطئ من يصدق انه منفي لانه ليس مشمولا برعاية الاحصاء الديمغرافي للعالم الافتراضي، كما يخطئ سكان العالم الافتراضي اذا صدقوا بانهم الملكوت وان غيرهم هم المنفيون!
ان اطرف ما قرأته حول دور التكنولوجيا في الحلول مكان الدماغ والقلب، هو عن نمط من الموسيقى والاشعار اليابانية التي تولت التكنولوجيا ابداعها.
فقد تم اهمالها والاقلاع عنها لسبب لا يخطر ببال احد، هو خلوها من الاخطاء البشرية الحميدة ومن نبض التردد!
فايهما المنفى.. وايهما الملكوت؟!
( الدستور )