حق العودة إلى الوطن

من في هذا الوطن يمكن أن يقدم لي خدمة جليلة... أن يصدقني القول؟ من عنده الوقت والهمة وحسن النية، ليجلسني أمامه ويخاطبني كشيء عاقل، ويقول لي الحقيقة.. يقول ما الذي يحدث بالضبط؟ من على استعداد أن يخلع قفازيه قليلا، ويريح أصابعه من نفاق ناعم، أصابع قبضته في أعز ما تملك.. رجولتها! ويبدأ في استحضار ما تبقى من عرق طيب الذكر، ورثه عن والده الحراث مع بيت فقير ودين يهد الحيل. انما لا يشبه عرقا باردا بدأ يعتاد على جبينه، الذي "كان" لا يكذب!.
من في هذا الوطن يريح دماغه من زحام التحليل والتأويل والتنجيم والتفسير، ويجرد رأسه إلا من رواية واحدة صادقة، لا تقتل أحدا الا اذا كان يستحق الموت فعلا! يقول الحق ولو على قطع رقبته، مرة ثم يركض إن شاء! يخالف أعراف القسم "الثاني"، والذي لم نشاهده على شاشة التلفزيون، ذاك الذي من دون صوت أو صورة، ذاك الذي لم يعرف به أحد الا هو و.. هو، ذاك الذي لم يحلف على كتاب ولا شرف ولا أمة؛ لأنه يخجل من حضورهم جميعا في حفل التعري قطعة قطعة، من ثوب الكرامة، لكنه سجل صلاحية وثباتا وعنادا في خانة "أغلظ الأيمان"!
من في هذا الوطن يخاف علي؟ يخاف حقا علي؛ لأنني أشبه في بعض ملامحي، واحدا من أقربائه، بسمرة لونها الشقاء، وندبات على الوجه لا يختلف على تاريخ صنعها اثنان من أولاد البلد! يخاف علي من المرض والفقر والجهل والكبت والموت من الغيظ. يخاف ألا أجد قطعة حلوى في جيبي، حين تغتالني غيبوبة سكر، من خبر لم يكن على البال ولا الخاطر، فيخيط لي جيبا تحت قبة القميص، ويملؤها بسكر النبات، ثم يواجهني بالحقيقة!
من في هذا الوطن مايزال يحفظ أبياتا من أناشيد المدارس، وتدمع عيناه رغما عن كبريائه، حين يسمعها عبر مكرفونات طابور الصباح؟ من يمتلك شجاعة لأن يشيح بوجهه عن مقاليد الأوسمة، التي ابتدعها حراسها، ويدفن رأسه عند أول حضن عجوز، يذكره بأمه ويبكي.. ويطلب منها السماح! يغسل أذنيه بماء دمعه ويسدهما ببقية من أحاديث نبوية ظلت تؤرق منامه طوال ليالي الظلمة.
من في هذا الوطن يؤمن بحق عودته إلى الوطن "الأم"، بعد غربة طويلة ومقيتة عن بلد كان اسمها الضمير، ربما جفت ربما قلت، لكنها ماتزال تحتفظ بيافطة تعلن أنها ليست للبيع وتدعو الراغبين إلى تجربة إعادة الاستصلاح! ( الغد )