إيران و«المسألة السورية»

تخوض إيران «حربها» على جبهة التغيير والإصلاح في سوريا، كما لو أنها «أم المعارك وأبوها»، ولا نبالغ إن نحن قلنا أن «المسألة السورية» بالنسبة لطهران، تكاد تكون «مسألة حياة أوموت»..ولهذا شهدنا كيف أضاءت طهران كل «اللمبات الحمراء»، وكيف رفعت الدبلوماسية الإيرانية من درجة استنفارها خلال الأشهر الأربعة الفائتة، وكيف خاضت معارك الدفاع عن النظام في سوريا، بكل ما أوتيت من قوة واقتدار.
ليست سوريا الدولة العربية الوحيدة التي وقفت إلى جانب الجمهورية الإسلامية زمن «حرب الثماني سنوات» بين العراق وإيران فحسب...سوريا ظلت على امتداد عقود ثلاثة، الحليف الإستراتيجي الأول لطهران، في منطقة المشرق العربي..ولقد حافظ هذا الحلف على ثباته وصلابته، برغم هبوب الريح العاتية التي مرت في سماء المنطقة وأجوائها، وبرغم تعاقب مراحل الصعود والهبوط، المد والجزر، في العلاقات الإيرانية السورية.
قيمة سوريا بالنسبة لإيران، تتخطى وزن سوريا وموقعها ودورها...فسوريا بوابة إيران إلى لبنان، وهي «شريان الحياة» الذي يغذي عروق حزب الله بنسغ الحياة...ودمشق حاضنة حركة المقاومة الفلسطينية حماس، ومن خلالها يصعب على أحد إنكار الدور الإيراني في المسألة الفلسطينية...ولسوريا «دالّة» لا يمكن إنكارها على «سنّة العراق» من أحزاب وقبائل وحركات، وهي «دالّة» لا يمكن الاستغناء عنها من قبل أي «لاعب» على المسرح العراقي، فما بالك حين يكون هذا اللاعب من نوع إيران (بينها وبين سنّة العراق، حاجز مذهبي)، أو بوزنها (أكبر لاعب خارجي على الساحة العراقية).
تدرك إيران، أن بلوغ الثورة السورية هدفها في «تغيير النظام أو إسقاطه»، من شأنه أن ينعكس بأوخم العواقب على دور إيران في هذه الملفات مجتمعة...فأي بديل للنظام، لن يواصل ما سبق أن بدأه نظام الرئيس الراحل حافظ الأسد، واستكمله باندفاعة أكبر، نجله الرئيس السوري بشّار الأسد...النظام المقبل في سوريا، قد يرتبط بعلاقات طبيعية مع إيران، لكن من المرجح أن يكون «خصماً» لطهران، حتى وإن جاء «التيار الإسلامي» إلى رأس السلطة في بلاد الشام.
إن قُدر للحراك الشعبي السوري أن يُحدث التغيير الذي يستهدفه في سوريا، فإن إيران ستخسر نفوذها في لبنان...وسيجد حزب الله نفسه في صدارة قائمة المتضررين من سقوط النظام، سيكون الخاسر الأكبر الثاني بعد النظام نفسه...كما أن قدرة إيران على التأثير في «الملف الفلسطيني» ستتضاءل، وهي على أية حالة ليست ذات تأثير وازن، بخلاف كل الدعاية المضادة لحماس، والتي تضعها في «السلطة الإيرانية»...وسيجد المشروع الإيراني في العراق، قوى مناهضة له، ستستقوي بلا شك، بتداعيات التغيير المنتظر في دمشق...ولا ندري في واقع الحال، كيف ستكون انعكاسات التغيير في سوريا، على «توازن القوى الإقليمي»، خصوصاً لجهة العلاقة بين أطراف المثلث غير العربي: تركيا، إيران وإسرائيل، فالكثير سوف يعتمد على طبيعة التغيير في سوريا وطبيعة النظام القادم، وأدوار القوى الإقليمية والدولية في صنعه.
لكل هذه الأسباب، وأخرى غيرها، تحرص إيران أتم الحرص، على «إدامة نظام الرئيس الأسد»، وهي من أجل هذه الغاية، تجند جُلّ مواردها، من مالية ونفطية و»غازية» ودبلوماسية..فهي من جهة «تطلق التحذيرات» في وجه أي عمل عسكري ضد سوريا، وتحذر تركيا والغرب من مغبة المضي في ترجمة «سيناريو بنغازي» في سوريا...وهي تهب برغم ضائقتها الاقتصادية، لمعالجة الضائقة الاقتصادية في سوريا...وهي تضغط على حلفائها في العراق، لمد يد العون للنظام السوري، معنوياً وسياسياً واقتصادياً...وهي تضخ نفطاً رخيصاً (يقال مجانياً) لسوريا...وهي تفكر بمد خطوط إنابيب للغاز عبر العراق إلى سوريا، ومنها إلى لبنان والأردن إن «تيسّرت المهمة»...وهي تحاجج في كل المحافل والمنابر بأن سوريا ليست مصر أو تونس، والأكيد أنها لن تكون «ليبيا ثانية».
والحقيقة أن «موقع سوريا وقيمتها» في منظومة «الممانعة والمقاومة» أو «الهلال الشيعي» أو «المحور الإيراني» في المنطقة، لم تكن خافية على أطراف عربية وإقليمية ودولية، سعت منذ سنوات عدة، بالأخص بعد حرب الخليج الثالثة وسقوط بغداد، من أجل «فك الارتباط» بين سوريا وإيران، ولقد استخدمت في سبيل ذلك مختلف وسائل الترغيب والترهيب، من الوعد بالمال والتجارة والنفط والمساعدة وفك العزلة وإدماج النظام وإعادة تأهيله...إلى التلويح بورقة المحكمة الدولية الخاصة وقرارات مجلس الأمن في لبنان وقانون محاسبة سوريا وتحرير لبنان والعقوبات الدولية والقوائم السوداء، وصولاً إلى الاستهداف العسكري والأمني لسوريا في عقر دارها، كما تبدّى في ضرب المفاعل النووي واغتيال شخصيات سورية ولبنانية وفلسطينية على الأرض السورية، وضرب معسكرات للمقاومة الفلسطينية فيها.
لم تفلح كل المحاولات السابقة، في زحزحة سوريا عن موقعها أو موقفها، لم تفض كل الجهود تلك إلى دفعها لتغيير تحالفاتها أو التخلي عن حلفائها، فقد كان هؤلاء ذخراً للاستراتيجية السورية، لم تقلل من قيمتهم، مناورات النظام فيما خص مفاوضاته مع إسرائيل، وجنوحه لـ»التنسيق الأمني» في الحرب على الإرهاب، أو حتى تقاربه الحثيث مع أنقرا.
اليوم، تبدو الفرصة متاحة لتجريب ما سبق تجريبه، ولكن تحت ضغط التهديد من الداخل هذه المرة، ومن خلال وضع رأس النظام ، لا أطرافه فحسب، تحت المقصلة...اليوم تُستنفر كل الأطراف والأوراق، من مال وسلاح و»سلفيين» وعقوبات وضغوطات من أجل إنجاز تلك المهمة التي طال انتظارها...وثمة ما يشي بأن المعركة التي بدأت دامية، ستكون مكلفة للغاية، ولا ندري ما إن كان بمقدور النظام الذي أجاد لعبة البقاء، أن يخرج رأسه من تحت «شفرة» المقصلة، أم أن هامش المناورة قد ضاق، وتقطعت به سبل المناورة وحيلها وحبالها ؟!.(الدستور)