المليونير إذ لا ينسى الصفعات!

كان طفلا يتيماً اقترب عمره من الثانية عشرة،و كان اسيراً لفقره،ايضاً،الا ان هذا لم يمنع صاحب الورشة التي يتعلم بها الحدادة من كيل الصفعات بقسوة على وجهه يومياً،فيبكي وتبكي السماء معه مدراراً،حتى كأني بقطرات الشتاء،جمع دموع المظلومين.
تلك قصته،في ورشة الحدادة التي كان يديرها عجوز متكرش مبروم الشاربين،كانت مهمته ضرب اليتيم يومياً وركله مقابل تلك القروش قبل خمسين عاماً في حي شعبي من احياء عمان،حتى يعود بها الى امه واخواته،ثمناً لطحين معجنهم.
دارت الايام بدورتها،واذ اكتب قبل خمس سنين،عن عائلة ايتام،ستة بنات وابنين،حاكياً قصتهم المؤلمة جداً من غياب الاب والفقر الشديد،فإذ برجل ذي صوت عميق،يتصل بي على هاتفي الخلوي،ويعرفني على نفسه،وأنه يتحدث من الدرجة الاولى في الطائرة،قبيل اقلاعها،مغادراً عمان الى باريس.
قال انه يقرأ هذه اللحظة في الطائرة قبيل اقلاعها حكاية الايتام،التي كتبتها،ويريد مساعدتهم،بعد اسبوع،حين يعود الى عمان،وان القصة مؤثرة جداً.
مرت الايام،وعاد الخلوي ليرن فوق رأسي،فإذا بالرجل ذاته يطلب ترتيب الزيارة لانه عاد الى عمان،رتبت الزيارة مع عائلة الايتام،وابلغت الرجل،عن الموعد في المساء التالي.
كنت وجهاً الى وجه مع الرجل،جميل المحيا،ذو صحة وبهاء،عيون ملونة كنمر ولد للتو،اصطحبته بسيارتي الصغيرة المتدحرجة كموجة الى بيت العائلة في حي من احياء عمان الشعبية ايضاً.
وصلنا الى الشقة،كانت في الطابق الثاني من عمارة قديمة جداً،نزلنا من السيارة،اشرت للرجل بأن تلك هي شقة الايتام،امتقع وجهه وسألني هل انت متأكد؟!قلت له بالطبع،سكت ودار دورتين حول نفسه،سحب نفساً عميقاً من سيجارته،واجهش بالبكاء.
تساقط الدمع من عينيه وكأنه استسقى الماء من قلبه فانبجست اثنتا عشرة عيناً من حزنه حتى تبلل قميصه الازرق،وانا احاول ان اسأله عن سر البكاء،وهو لايرد،يبكي ويحمد الله،دون ان يجيبني على اي سؤال،وكأنني ظل تبدد من امامه!.
اذ هدأت مشاعره قال:انظر الى هذه الشقة التي تريد اخذي اليها،تقع في هذه العمارة،وانظر الى المحلات المغلقة القديمة جداً في ذات العمارة الواقعة على الشارع،هنا كانت ورشة حدادة اتدرب فيها،وانا طفل يتيم ويتم ضربي يومياً واهانتي بكل الوسائل. «البقية ص 13»
الرجل الذي كان يتيماً وكان يهان في محل الحدادة،اخذته الدنيا الى الثراء لاحقاً،وثروته تتجاوز المائة مليون دينار،اعتبر ان هذه اشارة سماوية له،لان الموقع الذي اهين فيه،وكان يتم ضربه فيه،عاد اليه مليونيراً،ولماذا عاد؟!عاد ليتفقد عائلة ايتام لايعرفها!!.
اعتبر ان الله اعاده الى هنا حتى ُيذكره بما كان حاله قبل خمسين عاماً،وليذكره بفضله عليه،وليذكره انه اكرمه،وانتشله من الاذلال والفقر والهوان،وليذكره بحقوق الفقراء والايتام عليه،بقصة عائلة اخرى،تكاد ان تشابه قصة عائلته في طفولته.
بقي يرتجف طوال المشوار،وكأن يداً سماوية لامست قلبه،وقالت له هذا «مغتسل بارد وشراب» ليعترف بقوله ان الدنيا اخذته بعيداً،وانه بات في آخر سنين يتضايق كلما طلبه فقير او طالب علم او محتاج.
كان شفاف القلب،رقيق البصيرة.صعدنا الى العائلة،وكان نصيبها منه ان اشترى لها بيتاً جديداً واثاثاً،وسكنته لاحقاً،ومع هذا قام بتعليم كل البنات والاولاد،في الجامعات والمدارس،ومصروف العائلة الشهري كان يحط ومازال في حسابها المصرفي.
رمضان بعد ايام قليلة،لعل فينا من يتذكر ان الشهر ليس جوع ونوم وعصبية فارغة ووقوف عند صاج القطائف،وان ترميم العلاقة مع الله،سهل،يأخذك اليه اي طفل يتيم تكفله،ولو بعشرة دنانير شهرياً تضعها في يده،بدلا من حرقها في علبة سجائر.
عرش الله بلا بوابات،تعال بسرعة،اذ ان مولاك كريم.(الدستور)