سلطة حتى آخر الشهر

«ثورة حتى آخر الشهر»، عبارة استخدمت أول مرة في بيروت، وقيلت في وصف قطاع من «الموظفين» الذين التحقوا بصفوف الثورة الفلسطينية، وتحوّلوا إلى عبء عليها، هؤلاء لهم مواعيد منتظمة في الحضور والانصراف، ينتظرون بفارغ الصبر «آخر الشهر» لتسلم رواتبهم التي كانت تسمى «مخصصات»...هؤلاء خبراء في معرفة كيف يمكن الحصول على زيادة وبدل سكن ومهمات إضافية...هؤلاء خبراء في «تدبيج» الكتب والمطالبات.
لقد تكاثرت هذه الظاهرة مع تفاقم ظاهرة البترودولار السياسي، الذي أغرق الثورة والمنظمة والحركة الوطنية، وأفسدها تحت مسميات دعم المقاومة والصمود...سواء تدفق من مصادر «رجعية» أو ضُخَّ» من مصادر «تقدمية»...وظيفته لم تتغير، وأدواره هي هي، والنتائج التي تترتب عليه، كانت هي ذاتها.
مع استقرار الثورة الفلسطينية فترة طويلة نسبياً في لبنان، تمأسست أدواتها وأذرعتها وأجهزتها، ونمت سلسلة من الأشغال والدوائر والمهن والخدمات على هامش وجودها...وتوسع التوظيف ليشمل «عمالة وافدة»، عربية وآسيوية، بعد أن استفحلت «ثقافة العيب» في أوساط «الموظفين / المناضلين»، وفي أواخر عهد الثورة في لبنان، توسع حجم «الجالية» البنغالية، إلى الحد الذي أصبحت في لغة القوم، هي «الرطانة السائدة» في كثير من المعسكرات...هؤلاء لم تختلف وظائفهم في الثورة عن وظائف نظرائهم في بيوت عمان ومزارع الغور هذه الأيام.
مناضلوا «ثورة حتى آخر الشهر» ليسوا من طينة مناضلي «ثورة حتى النصر»...هؤلاء لا يعرفون معنى للتضحية والفداء...هؤلاء امتهنوا فنون السفر وحيله وتذاكره وحفظوا عن ظهر قلب، درجات الفنادق وفئات الغرف وأنواع النبيذ والكافيار والسيجار...هؤلاء اعتنوا بتهريب سيارات المرسيدس خاصتهم من بيروت، أكثر من اعتنائهم بمصائر «الرفاق والإخوة»...هؤلاء لم يقفوا على خطوط التماس ولم يبيتوا ليلة واحدة في الخنادق وخلف أكياس الرمل.
هؤلاء أو كثيرون منهم، هم الذين انتقلوا بنا من شعار «ثورة حتى آخر الشهر» إلى شعار «سلطة حتى آخر الشهر»،...فالسلطة التي يدافع عنها كثير من هؤلاء اليوم، كفّت عن القيام بوظيفتها كـ»ناقل وطني رسمي» لمشروع الدولة...والكل يحدثك عن الحاجة لـ»حل السلطة» أو إعادة النظر في تعريف أدوارها ووظائفها...الكل يحدثك عن «سلطة» تخفف أعباء الاحتلال و»تأخذ عنه كتفا»، سواء في ملف الخدمات وبالأخص في ملف الأمن والتنسيق الأمني...الكل يحدثك عن «سلطة» هي حاجة للاحتلال غير المكلف والمريح، وليس عن «سلطة» هي نواة للدولة وتقرير المصير.
لكن عندما تسأل: ولماذا لا نتخلص من هكذا عبء وقيد؟ يأتيك الجواب، وماذا نعمل بمائتي ألف موظف، يعيلون مليون ونصف المليون من الفلسطينيين؟ وهؤلاء يشغلون برواتبهم مليونا ونصف مليون آخر منهم....الكل ينتظر آخر الشهر...الكل ينتظر الرواتب.
لم تعد للفصائل سوى ميزانيات ضئيلة تحتاجها وتتصرف بها...كل قيادتها وكوادرها وعناصرها ومتقاعديها، «يقبضون آخر الشهر» من ميزانية السلطة...ليس هناك من هو غير مدين للسلطة براتبه، حتى المقيمون في الخارج، فقد جرى إلحاقهم بطرق عديدة، بشرايين السلطة وأوردتها...لكل هذا الكم الهائل من المناضلين والموظفين و»المناضلين / الموظفين»، علاقة مصلحية و»حبل سُري» مع السلطة...فكيف ستطلب إليه الدعوة لحلها أو الموافقة على التخلص من أعبائها... أنت تقترح عليه تحمل أعباء لا قبل له على تحملها، إن أنت طلبت إليه التخلص من «عبء السلطة» أو «السلطة / العبء».
ولأن «اعتمادية» السلطة في مصادرها تكاد تكون كاملة، مائة بالمائة (باعتبار أن أموال الجباية تأتي عن طريق إسرائيل وفقا لاتفاق باريس)، فإن القضية الفلسطينية برمتها، باتت رهنا بنظرية «آخر الشهر»...وستظل الحاجة ماسة لـ»سلطة حتى آخر الشهر»، طالما ظلت «الاعتمادية» الفلسطينية على حالها...وليس ثمة من أمل في امتلاك استراتيجية فلسطينية جديدة، وسيكون هناك تواطؤ لعدم امتلاك استراتيجية فلسطينية جديدة وبديلة، إن كان سيترتب عليها قطع الطريق على «آخر الشهر».
ومثلما كان شعار «ثورة حتى آخر الشهر»، بداية نهاية الثورة وأفول نجمها...فإن شعار «سلطة حتى آخر الشهر»، هو بداية نهاية مشوار «تحوّل السلطة إلى دولة مستقلة وسيدة، تجسد حلم الفلسطينيين في الحرية والاستقلال وتقرير المصير...بل وستكون «مقبرة» لحلمهم في المصالحة والإصلاح، إذ كلما ارتفعت في الأفق، دعوات للمصالحة والوحدة أو نداءات لتغير الحكومة، تحركت ماكينة «آخر الشهر» الدعائية، و»صمتت الصرافات الآلية وتوقفت عن العمل»، جالبة معها صمتاً حيال المصالحة وصياماً عن المطالبة بالإصلاح...ألم تتأخر «الرواتب آخر الشهر» منذ أن لاحت في الأفق بوادر مصالحة فلسطينية...ألا يذكرنا ذلك بمواقف مشابهة مرت بها الحركة الوطنية منذ المنقلب الثاني من سبعينيات القرن الفائت، وحتى يومنا هذا؟.(الدستور)