الشارع العربي و«نظيره» السوري

لا أدري من ذا الذي يعطي أيام الجمع السورية أسماءها...في مصر كانت الصورة أوضح...وفي اليمن كذلك...في سوريا تبدو الصورة متلبسة بعض الشيء وغامضة قليلاً...كما أنني لا أدري إن كانت الجماهير المنتفضة في العديد من المدن والبلدات السورية، تعرف الاسم الذي ستخرج ظلاله بعد صلاة ظهر الجمعة...الصورة ليست واضحة أيضا...على أية حال، فقد حمل يوم الجمعة الأخير اسم «إن الله معنا»...أو «إلنا الله» بالعامية السورية الدارجة...في تعبير عن الانزعاج مما يمكن وصفه بـ»التخلي العربي والدولي» عن دعم ثورة الشعب السوري أو انتفاضته.
والحقيقة أن تحليل موقف الرأي العام العربي من الثورة السورية، ظل طوال الأسابيع القليلة الفائتة في صدارة اهتمام المراقبين والمحللين...هل تخلّى العرب عن أشقائهم السوريين، هل تركوهم «يقلّعوا شوكهم بأيديهم»...وإن كان الحال كذلك، فلماذا، وكيف يمكن استعادة التضامن الشعبي العربي مع ثورة شعب شقيق، لديه من المبررات للثورة والانتفاضة، أكثر مما لدى كثير من الشعوب العربية.
في ظني أن لا تخليّ عربياً عن دعم شعب سوريا وانتفاضته... كل ما في الأمر، أن كثير من شعوبنا بحاجة لمن يتضامن معها في مواجهة أنظمة الفساد والاستبداد... الحركات الشعبية العربية، غارقة في بحر مشاكلها ومعمعان كفاحها للتخلص من الأنظمة القمعية والاستبدادية...وأحسب أن ما يحظى به شعب سوريا من تضامن، فاق ما حظيت بها شعوب ثائرة أخرى كاليمن وليبيا على سبيل المثال لا الحصر.
لكن مع ذلك، أرى أن من الحكمة الالتفات إلى جملة «الالتباسات» التي تحيط بمواقف الرأي العام العربي مما يجري في سوريا...فنحن لسنا أمام «مؤامر شعبية عربية» على ثورة شعب سوريا في مطلق الأحوال...نحن أمام عدد من الالتباسات من بينها، الخشية على سوريا من مواجهة مصير مماثل لما واجهته الثورة الليبية، أو حتى اليمنية، حيث إرهاصات الحرب الأهلية والاقتتال الداخلي و»انتظار المجهول»، تطل برأسها...العرب يخشون على سوريا من انقساماتها الأهلية ومن عبث أطراف عدة، في السلطة والمعارضة، في الداخل والخارج، بوحدة الجغرافيا والديموغرافيا السورية...العرب قلقون من التدخلات الأجنبية الضارة في الشؤون السورية الداخلية...لقد شاهدوا بأمهات عيونهم كيف يعمل «حلف الأطلسي» على إطالة الحرب مع العقيد القذافي، لابتزازه من جهة وابتزاز معارضيه وبدائله من جهة ثانية، ولتدمير ليبيا توطئة لإعادة بنائها بأعلى الأكلاف من جهة ثالثة، ولضمان توزيع مناسب لسوقي النفط والسلاح الليبيين على «الحلفاء» من جهة رابعة، وإلا هل من عاقل في هذا العالم يصدق أن «الأطلسي» بكل آلته وجبروته، غير قادر على الإطاحة بنظام «مجنون ليبيا» وأنجاله الأكثر جنوناً، وفي غضون أيام لا أسابيع؟.
العرب قلقون، وقد التبس عليهم الأمر... فالنظام في سوريا لم يصنف منذ «حفر الباطن» في خانة أصدقاء أمريكا... وهو كان ركناً ركينا مما أسمي بـ»محور المقاومة والممانعة» ولقد ناصبته واشنطن وحلفاؤها أشد العداء بعد العام 2003 ، وبالأخص بعد العام 2005...كل هذا تسبب في انقسام النخب السياسية والشعبية والإعلامية في مواقفها حيال سوريا، النظام والثورة، منهم من رأى أن كل هذه الحيثيات لا تسقط حق شعب سوريا بالعيش بحرية وكرامة...فيما اكتفى آخرون، بتغليب «صوت الممانعة» على ما عداه من أصوات، تماماً مثلما فعل آباؤهم قبل عشريات أربع أو خمس من السنين، عندما أعلوا «صوت المعركة» على ما عداه من أصوات، فلم يربحوا معركة ولم يظفروا بالحرية والنماء... وأخشى ما أخشاه أن نواجه اليوم مصيراً خائباً كالذي واجه آباءنا، فلا نربح مقاومة وممانعة ولا نظفر بكرامة وحرية.
وزاد الطين بلة، وأغرق الوعي العام في بحر من الغموض والالتباس، وقوف «معسكر الثورة المضادة» اليقظ والنشط في العالم العربي، في الصفوف الأمامية للمواجهة مع نظام دمشق...هذا المعسكر هو الذي احتضن زين العابدين بن علي، وهو الذي استبسل في الدفاع عن حسني مبارك، وعن نظامه من بعده....هذا المعسكر، لا يتخذ موقفاً مماثلا من نظام الرئيس بشار الأسد، بل يكرس ماكينته الدعائية (إعلامه الجبّار) والدعوية (الحركات السلفية)، وثقله الدبلوماسي، فضلاً عن ملاءته المالية الواسعة والعريضة، من أجل تقويض النظام في دمشق وتسريع رحيله...وعندما تفعل قوى هذا المعسكر (معسكر الثورة المضادة)، أمراً كهذا، فإن من المنطقي أن تصاب الشعوب بـ»النقزة»، وأن «تعد للعشرة» – وأقول للعشرة وإن غضب بعض كتاب المعارضة السورية المهاجرين – قبل أن تخرج للشوارع في مسيرات التضامن واعتصامات الدعم والتأييد.
لكل هذه الأسباب، وربما هناك غيرها، يقف الرأي العام العربي مشدوهاً، حائراً حيال ما يجري في سوريا...وثمة سيل من الأسئلة يدهمك حيثما حللت وارتحلت: ما الذي يجري في سوريا وكيف سينتهي وماذا بعد...وهناك أسئلة من طراز أصعب: هل ستبقى سوريا التي نعرف على حالها...هل سينتقل النظام الجديد إلى أحضان «معسكر الاعتدال العربي المنحّل»...أليس بالإمكان توقع «نظام مقاومة وممانعة بديل» أصلب عوداً من النظام المتفكك القائم...هل هو قدر الثورات أن تنقل نظمها من معسكر إلى المعسكر الآخر، أياً كانت اصطفافاتها القديمة، فتأخذ «المعتدل» إلى الممانعة، و»الممانع» إلى الاعتدال....هل هذه سياسة أم منكافة ونكاية...أسئلة وتساؤلات وعشرات غيرها، لا تنجو من الاستماع إليها، في أية جلسة تكون سوريا في صدارة جدول أعمالها.
الخلاصة، ليس في الأمر مؤامرة على ثورة سوريا وشعبها...أقله من جانب القطاع الأعرض والأكبر والأوسع من الجماهير العربية...تماماً مثلما يمكن القول بأن ملايين السوريين الذين خرجوا ويخرجون حتى الآن إلى الشوارع، ليسوا أدوات في تنفيذ «مؤامرة» ضد النظام كما يحلو له أن يصوّر...هناك مؤامرة في التاريخ، ولكن التاريخ ليس مؤامرة، هذا القول، ينطق على الموقف من سوريا النظام والثورة، الآن أكثر من أي وقت مضى وأكثر من أي شيء آخر.(الدستور)